تجنب الماضي، والقفز إلى المستقبل!!!!

ينزعج البعض بمجرد مناقشة أو حتى ذكر كلمة "الماضي"، وينتقد التركيز عليها بشكل عام. ويرى أنه يتوجب تكريس الجهود والتركيز مباشرة على المستقبل. ويحاجج  أولئك أن النظر للماضي مثبط، وعديم الفائدة، ونوع من إهدار الوقت، ومحفز على إعادة تدوير الصراعات وإثارة النزاعات والأحقاد. نعم، هذا الطرح فيه جزء من الحقيقة، وينطبق فقط على من يجترون الماضي بهدف الحصول على مكاسب سياسية  أو سلطوية في المستقبل، أو من يرغبون بإعادة تدوير عجلة الصراعات لأهداف معينة. ولكن هذا الطرح لا ينطبق كلياً على من يريدوا أخذ الدروس المستفادة؛ وذلك لتحصين الأجيال القادمة من عثرات وسقطات الماضي عند التوجه لبناء المستقبل. وبالمختصر، أن النظر للماضي يشكل خارطة طريق تقي من تكرار الوقوع بحقل ألغام الماضي، وكل ما نشهده اليوم بقضه وقضيضه إلا نتاج طبيعي لعدم أخذ الدروس المستفادة من الماضي!.

 لن يتأتى المستقبل إلا بخطوات ثابتة ومعروفة انتهجتها معظم الدول الناجحة، وكان العامل المشترك لنجاحها  هو الأخذ بالدروس المستفادة، وتتمثل الخطوات بما يلي: (١) اخذ الدروس المستفادة من الماضي، (٢) تقييم الوضع الحالي/ الحاضر، (٣) تحديدات الوضع المستقبلي المرجو/ المنشود، (٤) تجسير الفجوة بين الوضع الحالي والمرجو من خلال خارطة طريق مبنية وفق منهجية مدروسة تنتهي بمجموعة من المبادرات والبرامج والمشاريع.


الإشكالية دائماً ليست بالثلاث الخطوات الأخيرة (الثانية، والثالثة، والرابعة) لأنها لا تزال في متناول اليد ويمكن العمل عليها.

عادةً، ما تكمن الإشكالية بالخطوة الأولى المتمثلة بأخذ الدروس المستفادة؛ وذلك نظراً لأنها أحداث انتهت، وانتهى إطارها الزمني، ولكثرة المغالطات فيها، ولتفشي ثقافة عدم ذكر الأخطاء، ولوجود صعوبة لتحديد مصادر موثوقة لاستقائها.

وبالتالي، من أين نستقي الدروس المستفادة؟ وما هي المصادر الموثوقة لها؟. ومنبع هذا السؤال ناتج أن الإنسان بطبيعته لديه جانب تحيزي، وان السقطات والعثرات الكبيرة تحدث عند الصراعات، ومعظم- ليس كل- من كتب وقت الصراعات، كان متحيز لأحد الأطراف- إلا قلة قليلة من المصادر، وقد يصعب التعرف عليها!!!-.


دعونا نتفق أولاً  بأن الدروس المستفادة تعني ذكر الإشكاليات والأخطاء التي تم الوقوع فيها، ومسبباتها الجذرية- لا القشور-، وكذلك كيف تم التغلب عليها. وبمعنى آخر ذكر الجوانب المشرقة "النجاحات، وأسبابها"، والجوانب المظلمة "الأخطاء والعثرات والسقطات، ومسبباتها". كما أن الدروس المستفادة تنبثق من حقائق واقعية، وليس من آراء أو وجهات نظر شخصية. علماً أن الأخذ بها يقي من تكرار أخطاء الماضي، ومن هنا تكمن أهميتها.


لعلي أضع في السطور أدناه أربعة أمثلة - تخيلية او واقعية-، تمثل أربعة مؤلفات ناقشت وضعنا الراهن، وتصور الانحيازية في الطرح، وتعرض قشور المشكلة- لا جذورها- ، وكيف تم التغلب عليها. هذه الأمثلة ستشرح فداحة وكارثة الدروس المستفادة التي سوف يطلع عليها الجيل القادم.


فيما يخص التحيز، تخيل معي صدور أحد المؤلفات لأحد المتحيزين لطرف الصراع  عن الاحداث الحالية، وتحدث عن الانتصارات، والصمود، والتأييد الإلهي، ونشر الفضائل، ووحدة الصف، وعدم التمييز، وتحسين العمل المؤسساتي ووو،وغيرها. وكل تلك مغالطات، والواقع يقول إن هنالك انهزام سياسي واقتصادي واجتماعي، وتدمير للبنية التحتية والمؤسسية، وتحطم للقيم الأخلاقية، وتشرذم وانقسامات لمكونات المجتمع، وعنصرية مقرفة، وفقر، ومجاعة، وتفشي أوبئة. 

في الطرف المقابل، تخيل معي محتوى كتاب لكاتب ينتمي للجانب الآخر من طرفي النزاع، كتب يشرح فيه عن استقلالية وسيادة القرارات، والخطط الاستراتيجية غير مسبوقة لتخليص العاصمة، وعن النزاهة، وعن النجاحات المتتالية في بناء نموذج دولة يحتذى بها، ووو، وغيرها. رغم أن الواقع يقول إن هنالك تبعية عمياء، وشلل عن أي تقدم لسنوات، وفساد مستشري، وعجز عن إيجاد نموذج ناجح.


فيما يخص عرض الإشكاليات القائمة، على سبيل المثال، تخيل معي خروج العديد من المؤلفات تعمل على تشريح الحركة الحوث يه وتثبت المثبت، وكذلك مؤلفات اخرى توضح مخاطر الهاشمية السياسية؛ ولكن تم التنصل والتهرب والتغاضي كلياً عن مناقشة مصدر قوة هذه الحركة وطبقة الجيش فيها، والمستمدة معظمها من أبناء القبائل المنتمية لمذهب فكري معروف!!!!.

فيما يخص عرض طرق التغلب على بعض الإشكاليات، فعلى سبيل المثال، تصور ان يتم حل إشكالية عنصرية السلالية بعنصرية مقابلة، وبالتالي عوضاً عن حل المشكلة، أصبح لدينا مشكلتين!!.


تخيل معي كارثة وفداحة الدروس المستفادة التي سوف يستقيها القارئ من الجيل القادم عن تلك الأحداث، وعن مدى حجم التضليل، وعن أثرها في بناء إي مستقبل قادم!!!. وبالتالي، تصبح تلك الدروس المستفادة عبارة عن إشكاليات جديدة تحتاج إلى حلول!!!.


لذا، اعتقد أنه من الأفضل قراءة المصادر الموثوقة التي تحدثت عن الوضع وهي خارج دائرة الصراع كلياً، وفي الغالب قد يكون لكاتب لا ينتمي لبلد الصراع، ولا يتبع أي أجندة سياسية، ويصف الوضع برؤية مجردة ومنصفة. بمعنى أنه يتوجب تمحيص خلفية الكاتب وانتمائته، قبل الأخذ بأطروحاته. واعتقد كذلك أنه يمكن الاستفادة من المؤلفات التي أصدرت في حالة الاستقرار السياسي كون هنالك مساحة كافية لعدم التحيز، رغم أنه في حالتنا، فترات الصراعات متقطعة، وقد تفوق فترات الاستقرار!!!


أخيراً، المشاكل العميقة والمتجذرة التي نواجهها اليوم لا يمكن حلها دون أخذ الدروس المستفادة من الماضي، ولا يمكن حلها بنفس عقلية من صنعوها. كذلك لا يمكن حل مشاكل اليوم بمناقشة القشور دون الغوص بالجذور، ولا يمكن حل إشكالية بإشكالية مقابلة!. اعتقد كذلك انه يتوجب ايجاد آليه لحل إشكاليتي الذاكرة المثقوبة وعدم الاتزان العاطفي في المجتمع، لكي لا يتم التلاعب به مجدداً، ولعدم الوقوع بعثرات الماضي مراراً وتكراراً.

Comments

Popular posts from this blog

كتاب " تكامل عمليات الأعمال مع نظام تخطيط موارد المؤسسات SAP ERP " ترجمة د.صالح السليم، د. همدان محمد الصبري