قراءة في تاريخ اليمن...عصف ذهني لمراجعة المحطات بشقيها النيرة والمظلمة
(دعوة للمثقفين المتخصصين في مجالي التاريخ -بفروعة المختلفة-، والعلوم السياسية بالمساهمة في التغيير المجتمعي من خلال دراسة وتحليل عوامل نهوض اليمن في فترات معينة، وأسباب تعثرها وانتكاستها في فترات أخرى)
(ودعوة كذلك لإخواننا وزملائنا وأبنائنا للاطلاع العميق على تاريخهم من المصادر الموثوقة، وعدم الاكتفاء بالاستماع والتلقي فقط دون التمحيص والتدقيق) 

-----------------------------------------------
لتتبع التاريخ أهمية بالغة عند الشعوب المستنيرة، كونه يعد نافذة يمكن من خلاله التعرف على الفترات التي صعدت فيه وأصبحت منارة ومنبع للإشعاع، والفترات التي عم فيها الظلام وكثر فيه التنازع والاقتتال وأصبحت بيئة مضطربة طاردة؛ وبالتالي معرفة الأسس والخلفيات والعوامل التي جعلت من تلك الموجات تصعد أوقاتاً وتهبط أخرى. يعتبر الاطلاع العميق –التحليل والتمحيص والتدقيق- على التاريخ من خصائص الامم اليقظة؛ وذلك للإستفادة وتجنب العوامل التي تقود إلى العثرات والهبوط واستشراق كل ما يؤدي إلى التماسك والنهوض. ومطالعة التاريخ ليست للتباهي بالماضي المشرق أو للتباكي على موجات الهبوط والوضع المؤسف، بل لكي نجعل منه مرشداً وموجهاً لإدراك الوضع الحالي وإستلهام المستقبل.

وانطلاقاً من مبدأ "ان الشعب الذي يجهل تاريخه ليس بحراً"، وإيماناً ان معرفة التاريخ تعني معرفتك بنفسك وما تستطيع ان تفعله في خضم اي أحداث، وثقةً ان هنالك من الباحثين من يميزو بين التاريخ الذي يكتبه المؤرخون، وبين التاريخ الذي يكتبه المنتصرون، ستحيك ايدينا حروف ومفردات هذا المقال. واستناداً لما قاله د.هيكل سابقاً ان "تاريخ كل أمة خط متصل، و قد يصعد الخط او يهبط، و قد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع"، سننتاول في هذا المقال مدخل بسيط "أو طرف من تاريخ" يقتصر على محطات تاريخ اليمن دون الخوض في التفاصيل، وسنتركها لذوي الاختصاص. التاريخ ليس مجالي ولست متخصصاً فيه؛ ولكني شغوفاً به نظراً لاهميتة، ومن المحتمل ان اكتب في مقتبل الايام عن "تكنولوجيا التاريخ، أو رقمية التاريخ"؛ كونها الأقرب إلى تخصصي.

وكما هو النمط المتبع في كتاباتي، سأطرح العديد من التساؤلات، وسأجيب عليها في سياق هذا المقال، ومنها: ماذا نعني بالتاريخ وما الذي نستخلص منه؟، ما أهمية التاريخ ولماذا ينبغي علينا الاطلاع عليه؟، ما القيم المضافة من إدراك التاريخ سواءً للفرد أو المجتمع أو حتى لرجال السياسة؟، ما هي الخصائص الواجب توافرها في الباحث التاريخي المتميز؟، وماهي المشاكل والتحديات التي تواجه القارئ المبتدئ للتاريخ؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟، ما هي خصائص المؤلفات التاريخية اليمنية، وبماذا امتاز توثيقها؟، ما هي أبرز محطات تاريخ اليمن الاسلامي؟، وما هي المؤشرات والمقومات التي يمكن ان يقاس بها مدى استقرار الدول ومدى قوتها أو ضعفها؟، وسنختم هذا المقال برسالة موجهة للمتخصصين المثقفين في هذا المجال.

التاريخ هو علم يختص بدراسة وتسجيل الوقائع التي حدثت ضمن حقبة زمنية محددة. لم يعد يقتصر علم التاريخ على سرد ما قام به الإنسان في الفترات الماضية، بل تعدى ذلك ليتضمن إستخلاص النظريات والمنهجيات والدروس المستفادة السابقة؛ وذلك للاستفادة منها، وتطبيقها في ما هو معاصر. تبرز أهمية التاريخ انه يستمد سطوعه من بوابة الماضي لتبين الأخطاء التي جرت إلى الويلات والهلاك -لكي نتجنبها-، وتظهر العوامل والاسباب التي أدت الى الاستقرار والنهوض –لكي نتبعها-. يساعد فهم وإدراك التاريخ بشكل جيد على معرفة حضارات الشعوب السابقة وعوامل نجاحها وتقدمها وازدهارها، وفي الوقت نفسه كيف تم استمرارها، أو كيف بدء تقوقعها وانحصارها وزوالها. التاريخ هو جزء من تراث الشعوب ومظهراً من مظاهره الذي يسهم في بالتعريف بمزايا وسمات تلك الشعوب من خلال ما تُرك من الأفكار والكتب والآثار وغيرها. التاريخ عبارة عن رسمة بيانية توضح الأحدث بشكل متتابع أو متعرج، وما صاحب تلك الأحداث من صعود أو هبوط أو تغير في المجريات. ونظراً لتأثر كاتب المقال بالتقنيات، فإن التاريخ هو تحليل سوات الحديث - SWOT ANALYSIS- الذي يعرض مكامن القوة والضعف والفرص والتهديدات للمجتمعات، إضافة إلى عوامل النشاط والركود ونحو ذلك.

لا شك أن فهم وإدراك التاريخ من قبل الشعوب يحقق العديد من القيم المضافة سواءً للفرد أو المجتمع، ويمكن أن نلخصها فيما يلي: مطالعة ودراسة التاريخ توسع الأفق، وتنشط الفكر، وتشحذ الهمم، وتلهم في فهم عوامل النجاح ومسببات الفشل للفترات السابقة. تزيد قراءة التاريخ -بالشكل الصحيح- من الخبرة والمعرفة وتجعل من القارئ معايشاً للاحداث، وبالتالي يكتسب العبر، ويستفيد من الدروس. إضافة إلى ذلك، نستطيع القول ان التاريخ معهد دبلوماسي عالي ومدرسة سياسية عميقة ينهل منها بعض السياسيين لإدارة الشؤون المختلفة وللتعامل مع الازمات العاصفة، ولاكتساب الأفكار النيرة. وبالتالي، فإن تتبع التاريخ ينير للمجتمعات طرقهم، وتجعلهم اكثر إدراكاً وتيقظاً للتعامل مع ما يستجد، وأكثر حنكة للخروج بأقل الخسائر لما هو حادث.

تحليل التاريخ وتمحيصه من قبل الباحثين ليس بالامر الهين أو السهل، بل هو عمل صعب يتطلب توافرالعديد من الخصائص البحثية والمنهجيات التاريخية. يدرك الجميع ان هنالك من وثقّ التاريخ وهو يؤمن بالمبدأ الذي ينص على "ان التاريخ اذا لم يزور، فإن قراءته تكون مملة". لذلك تحليل التاريخ والحكم عليه يحتاج إلى متخصصين بقدر عالي من الكفاءة والتجرد والنزاهة والحياد والموضوعية؛ دون نزعة مذهبية أو طائفية أو مناطقية، أو .... ، ودون تمجيد شخصاً أو فئة أو ذم أخرى. كما يشترط بباحث التاريخ ان يكون مثابراً صبوراً، يتحلى بالشجاعة والملكة النقدية. ويجب ان يتصف بالصدق والأمانة في اظهار الحقائق كما هي دون تزوير أو إحفاء أو تشويه، ودون أرضى لفئة، أو ميولاً لأخرى.

هنالك العديد من التحديات والمشاكل التي قد تواجه القارئ المبتدئ للتاريخ، ومنها: التخبط والتوهان في اختيار الكتب التاريخية السليمة؛ نظراً لغزارتها. كذلك عدم معرفة خلفيات وتوجهات بعض المؤلفين، أو الاعتماد على سماع التاريخ دون معرفة مصادر المعلومات، أوعدم القدرة على استنباط مشاعر وميول ودوافع كاتب التاريخ. مما لاشك فيه ان بعض الكتاب/المؤلفين قد يتأثرون بالبيئة أو الانتماء، ولكن هنالك من الكتاب/المؤلفين المنصفين ممن ساروا على النهج الصحيح في نقل الأحداث كما هي، بل تجد من المؤلفين المتميزين من ينبه القارئ في بداية مؤلفاته، انه في حال وجود تحّيز أو تحامل على شخص أو على منطقة أو... فذلك بدافع شخصي من قبل المؤلف، ويسرد المسببات لذلك. تعتبر قراءة التاريخ تحدياً حقيقاً كونها تتطلب الوقت والجهد في التفتيش والتمحيص، والتنقل بين جنبات الكتب، وبين دور المكتبات.

لنضرب مثالاً توضيحياً لعملية التحليل والتمحيص، ولنتخيل معاً اننا نقرأ كتاباً تاريخياً يصف وضع حقبة معينة من حيث الإلتزام بالعهود والمواثيق، أو التنصل والنكوث بها بين الفينة والاخرى. وبالتالي، فإن القارئ المبتدئ للتاريخ سيجد من التضارب والتناقض في سيرة تلك الحقب ما يجعله تائه؛ ولكي يتغلب على تلك التضاربات فما عليه إلا ان يقرأ من مختلف التوجهات (أي يقرأ: يمين –مؤيد لطرف ما-، وسط أو منصف، يسار-ضد لطرف ما-) والربط بينها، وستتضح له الامور تماماً، ويصبح متأكداً بمن كان ينقض العهود فعلياً ومن كان يلتزم بها. يجب ان يكون قارئ التاريخ متفهماً لمشاعر وأفكار ودوافع مؤلفي الكتب التاريخية، وان يكون متخيلاً لظروفهم التي كانوا يعايشونها، وان يحاول معايشة تلك الادوار لكي يخرج بالأحكام والاستنتاجات الصحيحة والسليمة.

لننتقل إلى الضفة الأخرى لمعاينة المؤلفات المرتبطة بتاريخ اليمن، ستجد العديد من المؤلفات التاريخية التي تحكي أوضاع اليمن قبل الاسلام، و بعد الاسلام، و في التاريخ الحديث أي ما بعد عام 1962م. يستشف قارئ التاريخ اليمني مستويات الصعود والهبوط من خلال التمعن في عناوين المؤلفات التاريخية فقط. فتجد عناوين مؤلفات مرتبطة بالحزن، وأخرى بالمؤامرات، ومنها بالفرح والبهجة، والاعتزاز، وأخرى  بالنضال والتغيير، وعلى سبيل المثال ستجد الآتي كمفردات في عناوين المؤلفات: (النضال، الاستعمار، التحرر، أسرار، رياح التغيير، الانسان والحضارة، اليمن السعيد، اليمن والثورة، الأصل والجذور، بلوغ المرام، معارك ومؤامرات، بهجة الزمن، كنز الاخيار، كفاح، هزيمة، التيجان، مأزق اليمن، ملوك وأقيال، نفحة اليمن، هدية الزمن، فرجة الهموم والحزن، الفرجة والبهجة). بالتأكيد أن حال بلادنا كحال معظم البلدان التي مرت بفترات متقلبه، كانت في أوقات منبع للأشعاع الادبي والفلسفي والثقافي والسياسي، وكانت في أوقات اخرى منبع للظلم والظلام والاقتتال والنزاع؛ الذي كان يعود اما لصراعات داخلية أو تدخل خارجي او تأثير اقليمي أو دولي، وبنسب متفاوتة. وما ظهور وبزوغ الشخصيات الادبية والفلسفية والفقهاء والادباء في فترات مختلفة، من امثال الهمداني، ونشوان الحميري، والأمير، والشوكاني، والوزير، والبردوني والعمراني ووووو..... والعديد، إلا دليل على فترات اليقظة التي مرت بها اليمن.

أمتاز التاريخ اليمني بالتوثيق المستمر، والذي بدوره أدى إلى وجود العديد من المراجع والمصادر، بل ان بلادنا كانت من الطلائع التي سجلت جميع الانباء والاحداث والوقائع سواءً كانت تعكس النهوض أو الانتكاسة. وما المؤلفات التي متوافره حالياً، والنقوش والكتابات السابقة سواءً على الحجار، أو الجلود اوالاوراق إلا دليلاً قاطعاً على ذلك. مرت اليمن بالعديد من المحطات علا شأنها في فترات، وترنحت في أوقات، واضطربت في أخرى. ولو دققنا في تاريخ اليمن الاسلامي –من بعد الدولة العباسية- لوجدنا التسلسل التالي: ائمة الزيدية، بنو يعفر، قبائل متفرقة، ائمة الزيدية، بنو نجاح، بنو صالح، بنو مهدي، ائمة الزيدية، بنو رسول، بنو طاهر، الوجود العثماني في الجزء الشمالي، الوجود البريطاني في الجزء الجنوبي، الدولة المتوكلية الزيدية، الجمهورية العربية اليمنية، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، الجمهورية اليمنية، ووضعنا المترنح حالياً (2017م). وقد ذكر المؤرخون ان من أبراز سمات حكم اليمن بعد الاسلام هو غياب المملكة/الدولة الواحدة بشكلها الحقيقي، وأن مراكز القوى على مر العصور تبادلت بين "همدان" و "حمير".

هنالك العديد من المؤشرات والمقومات التي يمكن ان تستخدم لقياس مدى استقرار الدول ومدى قوتها أو ضعفها، ومنها على سبيل المثال: (1) قوة الدولة (القوة الاقتصادية، القوة السياسية، القوة العسكرية، القوة الثقافية، القوة الحضارية)، (2) مقومات واركان الدولة (الشعب (الثقافة، الدين، العنصر، اللغة)، الموقع الجغرافي (الإقليم: الحدود البرية والبحرية والجوية)، السلطة (الحكومة التي تمارس السلطة)، السيادة (سيادة داخلية، سيادة خارجية: ويمكن تقسيمها إلى دولة كاملة السيادة، دولة معدومة السيادة، دولة تخضع لدولة أخرى)، (3) خصائص ووظائف الدولة (الطابع والشكل العام للدولة، الطابع الجغرافي)، (4) عناصر/عوامل النهوض (ثورة زراعية، ثورة صناعية، نهوض ثقافي، نهوض علمي، نهوض تقني،... وغيرها).

قبل الختام، تكمن مشكلتنا في وقوعنا في فراغ وسباتاً تاريخي وحضاري، نظراً لعدم تعمقنا في فهم التاريخ وتحليل التراث والتفاعل معه والاستفادة منه. وتكمن كذلك بعدم وجود الحاضنة الثقافية التي تقدم الشيء الإيجابي للمجتمع، مما أدى إلى التراجع والانحسار وتحطيم الذات، والدخول في أزمة حقيقة. كما تكمن المشكلة ان المثقفين –في مجالي التاريخ وعلوم السياسة- لم يلعبوا الدور الحقيقي المنوط بهم والمتمثل بتغيير المجتمعات عن طريق توعيتها وتثقيفها وتنويرها بتاريخها الحقيقي. وبالتالي، على المثقفين في مجالي التاريخ والعلوم السياسية مراجعة أنفسهم وتقييمها، ووضع مشاريع التنوير التاريخي التي تملئ الفراغ الموجود حالياً. كما يتوجب عليهم كذلك اخراج الدراسات السابقة -ان وجدت- المتفرقة، وربطها وإيجازها للمجتمع. بالتأكيد، اذا استطعنا معرفة اسباب النهوض والاستقرار، فإننا سنتمكن من معرفة اسباب السقوط والانتكاسة. كما ان هذا المقال هو دعوة للباحثين الاجتماعيين بدراسة اسباب النعرات والإشكاليات التي ظهرت سابقاً بدعوة همدان، وحمير تارةً، وقحطان وعدنان تارة اخرى، وهاشمي وقبيلي وغيرها، وحالياً نسمع بعض الاسماء النكرة التي تدل على أداة حمل الأشياء أو الأنارة؛ وجميعها اصوات نشاز لا يقبلها اي انساناً سوي؛ وبالتالي انهاء تلك النعرات في المهد قبل تحولها من مشكلة إلى ظاهرة مستعصية.

ختاماً، نؤمن انه لايوجد شيء يحدث بالصدفة في مجال التاريخ أو العلوم السياسية، لان الصدفة لا يقاس عليها، ويجب ان يكون هنالك أسباباً موضوعية للنهوض أو الانتكاسة. ولكي يتم معرفة الإنتكاسة بشكل موضوعي، يجب اولاً معرفة أسباب الاستقرار والنهوض. وهذه المقالة هي دعوة لذوي الاختصاص في مجال التاريخ والعلوم السياسية بدراسة وتحليل عوامل النهوض ومسببات الخلل والسقوط وفقاً للتسلسل الزمني والمحاور والمقومات التي ذكرناها سابقاً؛ على ان تكون تلك الدراسة موجزة بجدول او صورة -انفوجرافيك-، يمكن ان يتم نشرها فيما بعد كورقة/أوراق بحثية قيمة في دورية/دوريات علمية محكمة، أو عملها كملصق علمي. والهدف الرئيس من هذا المقال هو الإسهام في توعية إخواننا وشبابنا وأبنائنا عن البعد التاريخي لليمن، وحثهم على القراءة العميقة من المصادر السليمة. بالتأكيد، لا ينبغي ان نكون حبيسي التاريخ، أو ان يكون عبء علينا، او ان يتم التباكي على الاطلال، بل يجب ان نستفيد من كنوزه؛ وذلك عن طريق تجنب المزالق السابقة، واستشراق واستلهام المستقبل

--------------------------------
كتب: همدان محمد الصبري




Comments

Popular posts from this blog

كتاب " تكامل عمليات الأعمال مع نظام تخطيط موارد المؤسسات SAP ERP " ترجمة د.صالح السليم، د. همدان محمد الصبري

تفكيك وتفريخ القوى، وتجميع ومراكمة المشاكل!!!