اقتصاد المعرفة (Knowledge Economy) .... بين الواقع والمأمول
(التعريف بالاقتصاد المبني على المعرفة، وأهميته، ودوره في رفد خزائن الدول بالعائدات المالية الكبيرة)
---------------------------------
في ظل التطور المتسارع للتكنولوجيا والثورة المعلوماتية والصناعية الحالية،  ظهر خلال القرن الحالي مفهوم جديد يطلق عليه "اقتصاد المعرفة، أو الاقتصاد المبني على المعرفة"، والذي يعتبر في الوقت الراهن من أهم الجسور لكي تعبر المجتمعات الى ضفة التطور والتقدم والازدها. وكما هو معلوم، تعتبر المعرفة هي المستوى الثالث –بيانات، معلومات، معرفة، حكمة- في التسلسل الهرمي، وتعد حجر الزاوية لاي مجتمع يتطلع الى تبوء مكانة مرموقة بين المجتمعات المعاصرة.  سابقاً، كانت معظم المجتمعات تعتمد على الاقتصاد التقليدي المبني على الإنتاج، والذي غالباً ما يعتمد بشكلاً كلياً على الأرض ومواردها، ويكون بحاجة الى المواد الخام ورأس المال، وغيرها، وتنتهي اما بحصاد المنتجات الزراعية، او بالتصنيع والإنتاج.
 في المقابل، ومع ظهور وتطور التكنولوجيا، تولدت مفاهيم عديدة منها مفهوم "اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد المبني على المعرفة"، والذي يعتمد بشكل أساسي على رأس المال البشري –أي العقل البشري وليس الجسد البشري-. وهو ما يعني التحول من الاعتماد الكلي على موارد الارض إلى المعلومات والمعرفة المتواجده في عقل الإنسان سواءً المضمنة منها او الظاهرة؛ وذلك لإنتاج البحوث والاكتشافات العلمية والإبتكارات والإختراعات.  لاشك ان هنالك تكامل بين الاقتصاد التقليدي والاقتصاد المبني على المعرفة بشكل او بأخر، ولكن من المؤكد بإن المعرفة اصبحت تلعب دوراً هاماً في رفع وزيادة العائدات والدخل القومي.
بالتأكيد، هنالك خصائص تعزز وتدفع المجتمعات إلى الإستفادة من مفهوم الاقتصاد المبني على المعرفة، ومن تلك الخصائص: جودة الأنظمة التعليمية بشقيها العام والجامعي، وتوافر البنية التحتية المتميزة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ووجود بيئة بحثية محفزة على إنتاج أبحاث ذات جودة عالية تلامس وتعالج مشاكل واقعية، والتي سينتهي بها المطاف إلى إبتكار وتسجيلاً لبراءة اختراع في احدى المكاتب العالمية.
تكمن أهمية الاقتصاد المبني على المعرفة  بمساعدة الدول على التحول الى دول متطورة وحديثة، من خلال رفد اقتصادها ودفعها للنمو، دون الحاجة إلى أي موارداً طبيعية. وفي الواقع، هنالك أهمية للمعرفة بشكل مباشر وغير مباشر، فالمعرفة تساعد في تحسين الاداء ورفع الإنتاجية وتقليل التكاليف، وكذلك رفد الاقتصاد بالعائدات المختلفة.
ولو تتبعنا التطور والثورات المعرفية للمجتمعات والمراحل التي مرت بها، لوجدناها مرت تقريباً بأربع مراحل: ابتداءً من الثورة الصناعية الأولى (الآلة البخارية وصناعات الحديد والنسيج والمجتمع الصناعي)، والثورة الصناعية الثانية (السيارة والطائرة، والهاتف، والطاقة الكهربائية)، والثورة الرقمية الثالثة (الحاسوب الشخصي والإنترنت والمعلومات)، وانتهاءً بالثورة التكنولوجية الرابعة (تطور التكنولوجيا، والانترنت)، ولا نعلم ما تخبئة الايام القادمة للثورة الخامسة، ولكن جميع المؤشرات تدل إلى ان هنالك توجه نحو الذكاء الصناعي، والربوتات، وإنترنت الأشياء، والنانو، والتقنية الحيوية.
ولكي نقرب الفكرة للقارئ الكريم، سنعرض بعض الامثلة التوضيحية والواقعية عن توظيف اقتصاد المعرفة من دول تؤمن بهذا المفهوم. لنأخذ بعض الشركات التي إستخدمت المعرفة وتكنولوجيا المعلومات للحصول على العائدات المالية، ومنها شركة جوجل/غوغل (Google)، وشركة اوبر(Uber). شركة جوجل هي شركة تكنولوجيا أمريكية متخصصة في الخدمات والمنتجات المتصلة بالإنترنت، تأسست في سبتمبر 1998م، وقد قدر اجمالي عائداتها لسنة 2016 بـ (89.46 مليار دولار أمريكي). بينما شركة اوبر متخصصة في وسائل النقل وتوصيل الأطعمة، وتأسست في مارس 2009م، واصبحت حالياً  تهيمن على حصة مهمة من خدمات نقل الركاب على المستوى العالمي، وقد قدر إجمالي عائداتها لسنة 2016 بـ (6.5 مليار دولار أمريكي)؛ حيث ان  تكاليف التشغيل لا تمثل إلا الشيء اليسير من الإيرادات العامة. قد يظن القارئ الكريم بان شركة اوبر لديها اسطول من الباصات والسيارات كونها تقدم خدمة النقل، ولكن في الواقع ان اصولها الثابته عبارة عن مقرات صغيرة وعدد قليل من الموظفين، ولا تمتلك اي اسطول، وتعتمد على نموذج الاعمال الخاص بها، والمتمثل بتقديم الخدمة عبر تكنولوجيا المعلومات، وربط طالبي الخدمي (من يحتاج الى خدمة التوصيل) بمقدمي الخدمة (من يمتكلون السيارات او اي وسائل نقل ولهم الرغبة في تقديم الخدمة).  ولو اخذنا مثالاً اخر يتناسب مع واقعنا، فإن إيجاد الطاقة البديلة المتمثلة بالالواح الشمسية وتوابعها بإستخدام مفهوم إقتصاد المعرفة درت على بعض الدول مليارات الدولارات كعائدات مالية مهوله.
وبالتالي، يتضح للقارئ والمحلل ان إيرادات تلك  الشركات –على سبيل المثال لا الحصر- تضاهي إيرادات بعض الدول النفطية، وقد تفوق بكثير ميزانيات بعض الدول الاخرى!!!!، دون الحاجة الى  موارد طبيعية او راس مال او خطوط إنتاج او او...؛ وذلك كونها استوعبت مفهوم اقتصاد المعرفة وكانت السباقة في توظيفة بالشكل الصحيح.
وقد يتساءل القارئ الكريم عن كيفية معرفة الدول التي انتجهت ذلك المفهوم، وهنا اقول ان هنالك العديد من مؤشرات القياس التي تمكننا من معرفة الدول التي انتهجت مفهوم "اقتصاد المعرفة" للحصول على العائدات المالية وزيادة دخلها القومي، ومن تلك المؤشرات: انفاق الدولة على الابحاث مقارنة بإجمالي دخلها القومي، او أنفاق القطاعات الخاصة على البحوث، ومعدل النشر العلمي للجامعات ومراكز بحوث الدولة، وطبيعة البحوث المنشورة (اساسية، تطبيقة، تجريبية، تطويريه،... وغيرها)، وكذلك معدل تسجيل براءت الاختراعات والإبتكارات في المكاتب الدولية.
 وفي هذا المقال سوف أسلط الضوء على مؤشر واحد فقط، وهو مؤشر "الإبتكار"، وذلك وفقاً لمؤشر الابتكار العالمي. لقد قامت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، في سنة 2016م، بتصنيف وترتيب 128 بلداً واقتصاداً في جميع أنحاء العالم؛ استناداً إلى 82 مؤشر؛ وقد كانت في مقدمة تلك الدول  كل من: سويسرا، والسويد، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وفنلندا وسنغافورة. ولقد برزت أربعة دول رائدة من حيث "جودة الإبتكار" وهي: اليابان والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا. ولو قمنا بالربط بين ما يتم ابتكاره واختراعه من قبل تلك الدول، وبين العائدات الاقتصادية لوجدنا انه يمثل رافداً مهماً لحزائن الدول آنفة الذكر. بالتدقيق على الصورة ادناه والتي تمثل كبار الدول المبتكرة حسب المنطقة الجغرافية، وبالتركيز على قارة آسيا، نلاحظ  الآتي: برزت في الشرق الاوسط دولة الامارات المتحدة العربية، وفي وسط وجنوب آسيا  كل من الهند، وكازاخستان، وأيران، وفي الجنوب الشرقي، وشرق آسيا كل من سنغافورة، وكوريا، والصين.
وقبل الختام، للتخصص ادبياته، ولابد هنا من مخاطبة اخواننا وزملائنا وطلابنا المبتدئين في مجال الحاسوب بتخصصاته المختلفة؛ وتنبيههم الى التوجهات المستقبلية لاقتصاد المعرفة، والمناطق المعرفية التي يجب التركيز عليها؛ حيث ان جميع المؤشرات تدل إلى التوجه نحو الذكاء الاصطناعي، والربوتات، وإنترنت الأشياء، والنانو، والتقنية الحيوية.
اخيراً، تسعى معظم الدول -المتقدمة منها والنامية- جاهدتاً في تحقيق النمو القائم على اقتصاد المعرفة من خلال البحوث والاكتشافات العلمية والابتكارات والاختراعات؛ وذلك بإستخدام إستراتيجيات مختلفة. وقد أستطاعت بعض الدول التقدم في هذا المضمار، ومازالت بعض الدول تحاول مواكبة من سبقها.  ولكن هنالك من الدول التي لم تستفد حتى اللحظة من الاقتصاد التقليدي المبني على الإنتاج من خلال إستخراج الخيرات من باطن الارض، فكيف لها ان تفكر بالاقتصاد المبني على المعرفة!!!، والسؤال هنا كيف سيكون توجهها وآفاقها المستقبلية في قادم الايام؟، وما هي الطرق التي سوف تنتهجها لتحسين اقتصادها؟، وهل سوف تتمكن من مواكبه الدول التي قطعت اشواطاً كبيره في هذا المجال؟، ام ان هنالك فجوة تقدر بآلاف السنين الضوئية!!!.



Comments

Popular posts from this blog

كتاب " تكامل عمليات الأعمال مع نظام تخطيط موارد المؤسسات SAP ERP " ترجمة د.صالح السليم، د. همدان محمد الصبري