التكنوقراطية "المعتدلة"... بين الحزبية واللاحزبية... وهجرة الاوطان
(الإجابة عن العديد من التساؤلات حول مفهوم التكنوقراطية، ومؤشرات قياسها المباشرة والغير مباشرة، ودعوة للتكنوقراطيين للخروج من الصمت المطبق، وللسياسيين للاستعانة بهم وجعلهم من صناع القرار)
---------------------------------------
كثيراً ما يطالعنا ويتسلل الى اذهاننا من مختلف الوسائل -المسموعة والمقروءة والمرئية-  مفهوم " التكنوقراطية"، وهنا قد ترد العديد من التساؤلات عند المتلقي، منها: ماهية مفهوم التكنوقراطية؟، تاريخه، فكرته، ومبدأ عمله؟، ما هي اسباب المنادة بتطبيق هذا المفهوم؟ ومتى تظهر هذه الدعوه؟، وما هي الخصائص الحقيقة لمن يتصفون بهذا المفهوم؟. أما بالنسبة للقارئ المحلل او الاكثر تمحيصاً فقد تطول سلسلة التساؤلات في ذهنة لتمتد إلى تساؤلات اخرى متمثلة بـ: ما هي وجهات النظر –او المدارس- المختلفة عن مفهوم التكنوقراطية؟، وما هي المشاكل والتحديات التي تواجه التكنوقراطيون؟، وماهي مخاطر استغلال المفهوم او التلاعب به؟، وهل هنالك امثلة واقعية على تطبيقه؟، وما هي المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس من قاموا بتطبيق التكنوقراطية؟. وخلال هذا المقال، سنحاول ان نجيب عن جميع تلك التساؤلات، مع مراعاة التبسيط والإيجاز بقدر المستطاع.

نعني بمفهوم "التكنوقراطية" إستخدام التقنيات والطرق والاساليب والمنهجيات المعتمدة على الاسس العلمية الدقيقة من قبل المتخصصين والأكاديميين والخبراء وأرباب الفكر؛ وذلك لتحليل المشاكل، واقتراح الحلول والبدائل المناسبة؛ بغرض صنع القرار للتحسين والتطوير، وتقديم الخدمات المناسبة وعالية الجودة. كما ان من يتصفون بهذا المفهوم "اي التكنوقراطيون" يمتازون بإمتلاكهم للخبرات، والمعارف، والمهارات بمختلف انواعها – تقنية، قيادية، تحليلية، إدارية، فكرية،  ..... وغيرها-، وكذلك المعرفة بالتكنولوجيا.

ولقد نشأ مفهوم التكنوقراطية وارتبط بظهور مجموعة من المهندسين والاقتصاديين والمعماريين والمتخصصين في شتى العلوم سنة 1932م،  في الولايات المتحدة. حيث تقوم فكرة التكنوقراطية على مبدأ دراسة الظواهر والمشاكل والأزمات المختلفة – اقتصادية، صناعية، زراعية، اجتماعية، ... وغيرها- بشكل علمي دقيق من قبل المتخصصين، ومن ثم استنتاج القوانين واقتراح الحلول التي تسهم في حل تلك المشاكل والظواهر؛ شريطة ان تكون تلك الحلول علمية وقابلة للقياس والتنفيذ.

والمطالع والمتتبع الجيد، يلاحظ بشكل واضح تفاوت المراحل والفترات التي يتم فيها تداول المفهوم، اوالمنادة به، اوالمطالبة بتطبيقه؛  حيث يزداد بريقه عند تدهور الاوضاع الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية في الدول، او التغيرات التي تطرأ على مستوى الاقليمي او الدولي. ويتم تداولة كذلك بعد قيام الثورات او عند أنهيار الحكومات او فقدان المجتمعات للثقة بالحكومات القائمة. ويتميز المناخ التكنوقراطي –أي الحكم التكنوقراطي- بالهدوء والاستقرار والنمو والازدهار، ولا يظهر فيه اي صدامات سياسية اونزعات فئوية او انقلابات سلطوية؛ نظراً لان المعيار الوحيد والمتفق عليه من جميع المكونات هو معيار الخبرة والكفاءة والنزاهة والتخصصية.

ولا بد لنا في هذا المقال ان نعرج إلى خصائص وسمات الشخص التكنوقراطي، وان نعطي هذا الجزء جل اهتمامنا، ومن تلك الخصائص: أمتلاك الخبرة والكفاءة، والقدرة التحليلة، ومهارات حل المشكلات، وصنع واتخاذ القرارات. كما ان التكنوقراطي ليس لديه اي اطماع لاحتلال المناصب أو التشبث بها؛ بقدر ما يهمه تحقيق الاهداف بأقل قدر ممكن من الموارد والجهد والوقت، مع مراعاة الجودة في نفس الوقت. التكنوقراطي لا يستمد قوته من حزب أو أنتماء أو طائفة، وإنما يستمدها غالباً من قوة الخبرة والكفاءة وسلطة المعرفة. ومن اهم الخصائص التي يجب التركيز عليها في وقتنا الحالي، ان التكنوقراطي لا مكانه عنده لاي تعصب بجميع انواعه واشكاله  - مناطقي، مذهبي، حزبي، فئوي، تخصصي، ...-، ولا يعير الجوانب الأيديولوجية أي اهتمام، ولا يحبذ الانتماء إلى الاحزاب السياسية. التكنوقراطي هو خبير لديه المعرفة والتفاصيل الكاملة في مجال تخصصه وعمله، ويعمل بكل السبل المتاحة لوضع الخطط والإستراتيجيات الواضحة؛ للوصول الى الهدف المرجو. التكنوقراطي لا يحبذ التوصيفات الزئبقية او الهلامية للمشكلة، وانما يتعامل مع لغة الارقام والاحصاء والحقائق، ويركز بشكل كبير على المعيارية ومؤشرات الأداء. التكنوقراطي لا يمتكلك الكثير من المرونة في مداهنة القوى المؤثرة واصحاب المصالح، بقدر ما يمتلك من مرونة في تقبل الاراء والتعاطي مع الافكار المنطقية. التكنوقراطي يخاطب العقل لا العاطفة –القلب-، ولا يجيد مهارة تسويق الاوهام او تزوير الحقائق او التلون بالالفاظ.  وبالتاكيد ان من لا تتوافر فيه معظم تلك الخصائص آنفه الذكر، يعتبر نصف/ربع تكنوقراطي، ومخاطره قد تكون اكثر من منافعه، وكما قال متنبي اليمن –البردوني- " أدهى من الجهل علم يطمئن إلى *** أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا".

هنالك العديد من المدارس ومن وجهات النظر حول مفهوم التكنوقراطية. فمنهم من يرى ان مفهوم التكنوقراطية لصيق بالسلطة وشكل من أشكال الحكم، بل ذهب اخرون إلى ان التكنوقراطية تخوّل صاحبها بان يكون مسؤلاً عن لحكم والسلطة بشكل شرعي وقانوني؛ وذلك بحكم ما يمتلكة من الخبرة والمعارف. وأخرون يرون ان التكنوقراطية عبارة عن التخصص والدراية الكافية بالمجالات المختلفة والاهتمام بتوظيف الكفاءات بناءً على معيار المعرفة والخبرة، ودون النظر إلى أية انتماءات سواء كانت سياسية او دينية او طائفية او فئوية. كما ذهب البعض إلى ان التكنوقراطية منافية للديمقراطية كونها لا تمتلك برامج –أي برامج سياسية-، ولا تمتلك قوى على الساحة. وبالمقابل، اشار البعض إلى ان التكنوقراطية ليست منافية او ملغية للديمقراطية بقدر ما تمثل مرشح –فلتر- لتصفية الانتهازيين والغير متخصصين. وذهب أخرون بالقول بان المناصب العليا هي مناصب سياسية لا تحتاج إلى التخصصات والخبرات بقدر ما تحتاج إلى تنفيذ برامج سياسية ودراية بالجوانب الإدارية. ومنهم من يرى ان التكنوقراطي يجب ان يكون إدارياً ومثقفاً أولاً ثم تكنوقراطياً ثانياً، وهنالك الكثير من الاراء والمدراس والتفسيرات المختلفة. ومن وجهة نظر كاتب هذا المقال، ان جميع المدارس محقة بطرحها –إلى حد ما- حول مفهوم "التكنوقراطية"،  ولكن هنالك عوامل يجب ان تسلم بها وتتفق عليها جميع المدارس، إلا وهي ان يتحلى المسؤول –سواءً كان تكنوقراطي او سياسي او...-  بالعفة والنزاهة والوطنية، ولا تشوبه اي شائبة، وليس عليه علامات استفهام، وان تكون لدية الخبرة الإدارية والصفات القيادية، والقدرة على العمل ضمن فريق، وان يكون على دراية كافية بمجال عملة.

ويجب علينا كذلك ان نسرد بعض التحديات والإشكاليات التي يواجهها معظم التكنوقراطيين –وبالذات في البلدان النامية-، ومنها: عدم الاستماع لارائهم، وعدم اشراكهم في صنع القرار، ووجود بعض النزاعات والصراعات التي قد تمثل بيئة طاردة، ومحفزة على الهجرة. ومن المشاكل كذلك، ان البيئة المحيطة قد تدفعهم او تضطرهم إلى الانتماء السياسي/الحزبي، والذي بدوره يعمل على تقييد الفكر وقوقعتة ضمن نطاق ضيق، بل ان بعض الانتماءات قد تؤطر عقولهم بجزء من العلوم الدينية وتحجم عن العلوم الحديثة بحجة انها غير مفيدة، وبالتالي تقف هنا عجلة تطور الفكر. وبالتالي، قد يتم تأطير التكنوقراطي ضمن مجموعة فئوية ضيقة الفكر، او جعله انتهازياً فاسداً يحب ويهوى السلطلة بأي ثمناً كان!!!.

ومن باب الانصاف والاتزان، لا بد لنا ان نذكر المخاطر والجوانب الاستغلاليه التي قد يوظفها بعض التكنوقراطيين "المتشددين وليس المعتدلين". فقد تجد تكنوقراطي متشدد لا يشرك احد في آرائه ولا يرى من الآخرين إلا مجموعة من الجهلة والمتخلفين. بل قد تتولد عند البعض ما يسمى بالنزعة التكنوقراطية "المتشددة" التي تدعو إلى إلغاء مبدأ التشاركية في النقاش العام، وإقصاء أفكار الأخرين، وتعطيل مساهمة المجتمع. وقد يكون هنالك "نصف تكنوقراطي" انتهازي فاسد، وهو بلا شك يشكل خطر كبير على المجتمع؛ كونه متمكن من حياكه القصص ولديه مهارة الاقناع في مجاله. وقد تجد تكنوقراطي متمكناً في مجالة، ولكنه يفتقد الكثير من الجوانب الإدارية.  وقد تجد البعض الاخر يتوهم بأن التكنوقراطية عبارة عن امتلاك الشهادات العلمية العليا فقط –الكرتونية-، دون النظر إلى ان هنالك من يملكون من الخبرات والمعارف ما تفوق بمئات المرات ممن يحمل تلك الدرجات العلمية –وهذا ليس للتعميم-. وهنالك كثيراً من الشواهد الواقعية على ذلك، وما وجود الهيئات التخصصية الهندسية والطبية حالياً إلا نوعاً من الفلترة والتنقيح لمن يدعون المعرفة والتخصصية، وهم في الاساس من مقتحمي المجالات عبر الشهادات الكرتونية!!!.

ومن المؤكد ان القارئ قد يتطلع إلى معرفة الدول التي طبقت مفهوم التكنوقراطية، وما آلت إليه الاوضاع بعد التطبيق. هنالك العديد من الدول التي قامت بتطبيق مفهوم التكنوقراطية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الصين وأمريكا واليابان وغيرها. حيث طبقتها الصين بعد استتباب الثورة الصينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات؛ وذلك بالاعتماد على من قامت بابتعاثهم لتلقي مختلف العلوم، وقد ساهموا عند عودتهم في حل المشاكل بأنواعها المختلفة، وتطوير الجانب الزراعي ومن ثم الانتقال بالمجتمع من مجتمع زراعي الى مجتمع صناعي بإمتياز. وفي الولايات المتحدة، أصبحت التكنوقراطية حركة شعبية وذلك خلال فترة الكساد/الانهيار الكبير، والتي هي عبارة عن ازمة اقتصادية ضربت امريكا سنة 1929م  وتأثر العالم بأسره. وقد تم الرجوع في حينه إلى التكنوقراطيين دون السياسيين، انطلاقاً من مبدأ ان المؤسسات لا تحتاج إلى السياسي بالدرجة الاولى بقدر ما تحتاج إلى الخبير في المجال، وفعلاً استطاعوا اخراج البلد مما هي فيه.  ولو نظرنا إلى الأمثله السابقة كنماذج حية وقارنها مع بقية الدول، لوجدناها حققت تقدماً وتطوراً مشهوداً في مختلف المجالات، لايختلف عليه اثنان.

وقد يتساءل البعض عن المؤشرات التي تساعد على معرفة الدول التي طبقت مفهوم التكنوقراطية بشكله السليم. في الحقيقة، هنالك العديد من المؤشرات المباشرة والغير مباشرة التي يمكن ان تستخدم لقياس تطبيق المفهوم، ومن تلك المؤشرات: استقرار التكنوقراطيين في اوطانهم –وبالطبع عكسها مؤشر الهجرة (Migration  Index)-،  ووضع الدولة (متقدمة ام نامية)، وجودة الخدمات المقدمة من قبل الدولة –تعليمية، صحية، ....-، ومؤشر مدركات الفساد (Corruption Perception Index)، ومؤشر السلام العالمي (Global Peace Index)،... وغيرها من المؤشرات. وللتوضيح، سوف إستخدم مؤشرين فقط: مؤشر الفساد، ومؤشر السلام العالمي –اي عدم وجود صراعات-؛ وذلك لان الدول التي لا مكانه فيها للتكنوقراطي، والتي ينعدم فيها معيار تكافأ الفرص، هي الدول التي يستشري فيها الفساد، وتكثر بها النزاعات والصراعات، والتي تضطر الكوادر التكنوقراطية الى الهجرة. وبالتالي، ما عليك إلا التمعن في الصورة الاولى ادناه، والمتعلقة بمؤشر مدركات الفساد لسنة 2016م، والتحقق من تدرج الالون؛ فاللون الاحمر الغامق يدل على استشرى الفساد في تلك الدول، بينما الدول التي يميل لونها الى الاصفر الفاتح -الذي يسر الناظرين- يشير إلى انها دول يقل فيها الفساد او يكاد ينعدم.  ولو دققنا كذلك في الصورة الثانية ادناه، والمرتبطة بمؤشر السلام العالمي لسنة 2016، لوجدنا ان المؤشر يقاس بستة ألوان وكل لون له مدلوله. فاللون الاحمر يدل على ان مستوى السلام منخفض جداً –اي ان الدول تكثر فيها الصراعات والنزاعات- في تلك الدول، بينما يشير اللون الاخضر الى ان نسبة الاستقرار مرتفعة جداً في تلك الدول.

قبل الختام، أؤمن تماماً بدور التكنوقراطية "المعتدلة/ غير الانتهازية" في صنع القرارات الصائبة المستندة الى اسس علمية وتخصصية. كما أؤمن كذلك بأنها تؤدي إلى التطوير والتحسين والنهوض، والخروج بالدول من الوضع المضطرب إلى وضع مستقر يسوده الهدوء والاستقرار. وبالتالي، يعتبر هذا المقال انتقاداً ضمنياً للدول التي جعلت العديد من التكنوقراطيين يعزفون عن تخصصاتهم ومعارفهم نحو السياسة؛ التي اصبحت في وقتنا الحالي مهنة من لا مهنة له!!!. وبالتالي، هو انتقاد جزئياً لمتبع هذا الاسلوب، وانتقاداً كلياً للبيئة التي اضطرتهم إلى اتباع هذا الاسلوب.

ختاماً، نعلم وندرك جيداً بان اكتساب العلوم والمعارف بشتى مجالاتها لها وقعها في النفس وأثرها على السلوك، وان التكنوقراطي بسجيته ينفر من الصراعات، وتهوى نفسه الهدوء والامن والاستقرار؛ لتحقيق رؤاه وافكاره وابداعاته. وهنا يتوجب علينا ان نثمن عالياً كل من ظل –من التكنوقراطيين- يعمل في الداخل ويدعو للاصلاحات، متحملاً العبء والعناء والمسؤولية. وفي نفس الوقت، نحترم ونقدر كل من هاجر لطلب العلم او البحث عن الرزق او الابتعاد عن مغبه الحرب؛ وبالتاكيد انهم سوف يتزودون بالعلم والمعرفة والخبرة حتى تسنح لهم الفرصة للعودة وتطبيق معارفهم في أوطانهم. هذه المقالة هي دعوة للتكنوقراطيين للخروج من الصمت المطبق، وان يكون لهم كلمتهم وحضورهم، وان يقوموا بطرح جميع المشاكل والقضايا، ومناقشتها وتحليلها، والخروج بحلول وبدائل مناسبة تسهم في خروجنا من الوضع الذي نحن عليه. ندرك تماماً ان السياسيين يسيطرون على مقاليد كل شيء، والمقالة هي رسالة لهم كذلك  مضمونها "اجعلوا من التكنوقراطيين صانعي القرار وعوناً لكم، وتفردو انتم باتخاذ القرار". كما نأمل ان تسهم هذه المقاله في التآمل جيداً، وإطلاق العنان للعقول، لتفكير بصياغة مبادرة شاملة تجمع التكنوقراطيين تحت مظلة وطنية جامعة بمختلف شرائحهم ومشاربهم وتوجهاتهم. بل اقولها بصراحة، حان الوقت لكي يتحرك التكنوقراطيون تحت مظلة وطنية جامعة، والبدء بالعمل من الآن فالحل قادم لا محالة، أما اذا استمريتم على الصمت المطبق؛ فلن تجدوا لكم ولا لأبناءكم وطن، وسوف تتقاذفكم البلدان الآخرى، وحينها لن ينفع الندم!!!.



Comments

Popular posts from this blog

كتاب " تكامل عمليات الأعمال مع نظام تخطيط موارد المؤسسات SAP ERP " ترجمة د.صالح السليم، د. همدان محمد الصبري